الكابينة

الكابينة

“وقعت عيناه علي وجه الشاب وفي أقل من ثانية رفع الرجل عينه بعيداً حتي لا يُطيل النظر إلي وجه الشاب، فهو يعلم أنه لو فعل سيكون لتلك النظرة أثر وأى أثر على الشاب ، لم يدرك الرجل بأن الشاب قد أعتاد تلك “الأطاله” من الناظرين إليه بل إلي وجهه بالتحديد ولقد أعتادت نفسه ذلك الألم الذي تُخلفه تلك النظرات ….”

…………………………………………………………….

في حجرة من حجرات البنك جلس جميع المتقدمين للوظيفة الوحيدة الشاغرة بالبنك يترقبون الاستدعاء لأجراء مقابلة مع مدير البنك

الكل عنده أمل ولو ضيئل للفوز وتحقيق حلم العمل ، الكل يملك بعض المقومات والأمكانيات التي قد تساعده على إقناع مدير البنك بأنه هو الأصلح للفوز بالوظيفة ..!

أعين المتقدمين تدور في الغرفه تُقَيم بعضها بعضا في سرعة، فتطمئن هذا وتُقلق هذا، كان من بين من تقدم للوظيفه شباب حديثي التخرج ما جاءوا طمعاً في الوظيفه بل جاءوا ليكتسبوا خبرة “الانترفيو” وليستعينوا بتلك الخبرة للفوز بالوظيفة في المرات القادمة ، ومن بين المتقدمين أيضاً من “عاهد الله” لأن فاز بالوظيفة ليفعلن كذا وكذا ، ومنهم من أصبحت له تلك الوظيفه الأمل بل الأمل الوحيد في بداية حياة كريمة !!

كانت الأحلام تداعب الرؤوس إلا رأس ذلك الشاب فلقد كان علي يقين راسخ من أنه لن يفوز بالوظيفة وعلى الرغم من نبوغه الدراسى وفهمه الكامل لطبيعه العمل البنكي وما يتطلبه من خبرات فهو مؤمن تمام الأيمان بأنه لن يفوز بالوظيفه المرتقبه
وكيف له أن يفوز بها وتلك البقع البيضاء تطل من وجهه وحول فمه وفوق حاجب عينه الأيسر وتملأ يداه ورقبته وتنفر منه كل من ينظر إليه !!!

…………………………………………………………..

سمع المتقدمون للوظيفه صوت جرس وأضاءت شاشه حمراء صغيرة عليها رقم مما يعني أنه قد حان دور أحدهم لمقابله مدير فرع البنك

لم يدري الشاب لماذا عبر عقله حاجز السنوات
بهذه السرعه ؟ لماذا يتذكر كل شيء الأن ؟ لماذا تعاوده ذكريات تلك “الكابينة” المشؤمة؟ ربما صوت الجرس والشاشه الحمراء والحجره المغلقه
قد أعاد ذكري تلك الكابينة و تلك الأيام إلى عقله،

صور من طفولته تطارده الأن ، صورة الكابينة الضيقة ذات الضوء الأبيض و الأزرق الحاد
و غطاء العين و “لمبة” حمراء صغيرة تُضيء و يتزامن مع أضاءتها أغلاق باب الكابينة و صوت جرس منخفض يستمر حتي تنطفيء اللمبة ويُفتح باب الكابينة مره أخري

مثلت تلك الكابينة الرعب في أبلغ صوره له ولم يكن عمره قد تجاوز الثامنة، وعلي الرغم من أنه لم يكن يشعر بأي ألم أثناء جلسه العلاج بالضوء وعلي الرغم من دخول والده معه في تلك الكابينة أثناء “جلسه العلاج” إلا أنه يذكر تسارع دقات قلبه ، يذكر كيف كان يبدأ في الصراخ وفِي المقاومة حين يهم أبوه بخلع ملابسه عنه أستعداداً لبدأ “الجلسة” وتعريض جلده ذو البقع البيضاء لتلك الأشعه ذات اللون اللبنى الحاد !

يتذكر كيف كان أبوه يضُمه إليه وهما في الكابينة سوياً و قلبه ينخلع خوفاً من مكانه ، يذكر كيف كان يُبعده أبوه برفق عنه حتي يسمح للضوء أن يصل الي كل جزء من جلده !

لعن الشاب عقله ولعن تلك الذكريات التي تلاحقه في تلك اللحظه فبدلاً من أن يُركز تفكيره في المقابلة المرتقبة والتي قد تأتي في أى لحظه، راح عقله يذكره بأسوأ أيامه بل و يستدعي معها ألم وأفكار سوداء حاول لسنوات الهروب منها!

لعل جلوسه في تلك الغرفة من البنك لا يعرف أحداً ولا يتحدث الي أحد هو ما دفع عقله لاستعادة تلك اللحظات والأفكار أو ربما خوفه من “نفور” من حوله منه هو ما دفع عقله الي تلك الذكريات السوداء !

مر بعقله صورة أخرى من طفولته حين صَحِبَه أبوه لزيارة عَمَه له وَيَا ليته ما فعل ، فرح للفكرة فلهذه العمه ثلاثة من الأبناء في أعمار متقاربة من عمره ، ظن أنه سيلهو لساعة أو ساعتين معهم وبعد ذلك سيعود مع والده إلى بيته كالمعتاد .
ولكن وفور دخوله والده الي منزل أخته، نظرت الي المرأه إلى وجه الطفل وأستدارت تسأل أخيها بصوت مسموع
– ايه يا محمود ده ؟ إيه اللي حصل؟ إيه اللى فى وش الواد ده ؟
– وطي صوتك؟!، يالاه يا “يوسف” روح العب مع “نوران” و “عَبَد الرحمن” و “محمد” علشان هنمشى بعد شويه صغيرين ؟!

خفضت عمته من صوتها وهي تعيد السؤال علي أخيها، ولم تصل الكلمات الي أُذن الطفل ساعتها ، غير أن دهشتها وسؤلها أول الأمر قد حرك شيئاً في عقله وكان بدايه لأسئله كثيره دارت لسنوات في عقله ، لم تمنعه سنوات عمره المعدودة من الشعور بأن هناك شيء غريب يحدث كلما نظر إليه أحد ، ولكنه أدرك بعد ذلك أو هكذا أعتقد بأنه هو نفسه ذلك “الشىء الغريب”

عاد وهو جالس ينتظر إجراء المقابله في البنك عاد يتذكر حين رأي عمته تُسر في أذان أبنائها بكلام لم يتبينه
ولكن فضوله دفعه لسؤال إبنة عمته
– هي عمتو بتقول لك إيه؟
– ما بتقولش حاجة؟
– لا بجد ؟ مش هلعب معاكي تانى ؟
– بتقول لنا نغسل إيدينا بعد لما نلعب معاك علشان ما نتعديش وتيجلنا بقع في وشنا؟!
لم ينسي ذلك الْيَوْمَ ولم ينسي دموع والده الهادئة المنسابه دون أرادته حين قص الطفل عليه القصص !!

…………………………………………………………..

 

إنتبه الشاب من صراع أفكاره علي ثرثرة بعض المتقدمين للوظيفه ولمح شاب وسيم يقطع الغرفه ذهاباً وإياباً وهو يتحدث في هاتفه المحمول ورأى فتاه جميلة تجلس متأنقه تنتظر أن يحين دورها لمقابله مدير البنك ، أبتسم الشاب دون ان تبدو الابتسامه علي شفتيه وحدثته نفسه في أن يغادر المكان فلا داعي لمزيد من الصدمات ومزيد من الحرج ،أعتاد الشاب علي رفض القبول في كل وظيفة يقدم للالتحاق بها وكان الرد مهذباً في كل مرة “هنتصل بيك قريب إن شاء الله” ولم يتصل به أحد منذ أكثر من عام !!!

أدرك الشاب أن أختلاف لون جلده وتلك البقع البيضاء في وجهه ستفصله عن الحياة وستبني جداراً فاصلاً بينه وبين من حوله
(لا أعتقد أن فاصلاً تصف بدقه أثر ذلك الجدار في نفس الشاب فدعونا نقول) جداراً عازلاً ، يعزله عزلاً عن أُناس لم يحسب أن بقع بيضاء بالوجه ستنفرهم منه بل ومن مجرد الأقتراب منه !
خرج مدير الفرع من مكتبه وعبر الغرفه التي ينتظر بها ذلك الجمع من المتقدمين للوظيفه وطافت عينه بينهم وتوقفت عند ذلك الشاب لثانية ثم رفع عينه عنه وعاد الي مكتبه
أحس الشاب بأن شيء ما قد حدث في تلك الثانيه
شيء لا يفهمه ، هناك إرتباك قد طرأ علي وجه مدير الفرع لم يستطع الشاب تفسيره أو ربما كان الشاب يبالغ ويغالى في أنفعالاته علي أثر ما كان يطارد عقله منذ لحظات
رِن الجرس من جديد وتبين الشاب أن دوره قد حان لمقابلة مدير البنك ولكنه لم يكن قد تجهز للقاء بعد
– أهلاً يا يوسف ، أتفضل؟
– متشكر
– احكى لى مين هو يوسف محمود السيد ؟!

أنطلق الشاب يجيب علي كل سؤال في لباقه لم يعهدها في نفسه من قبل ، تعجب من حضور ذهنه وكأن الذكريات التي لاحقته منذ دقائق قد مُحيت من عقله تماماً ، تصرف وكأنه إنسان عادى وعلامات الأستحسان تبدو علي وجه مدير البنك

أنتهي اللقاء غير أن الشاب كان يتوقع سؤال بعينه لم يسأله مدير الفرع عنه !
وكان ذلك السؤال هو السؤال المعتاد ” من إيه البقع اللي في وشك دي ؟”

ربما سمع ذلك السؤال مئات المرات في سنوات عمره وكثيراً ما كان يُسأل عن تلك البقع البيضاء في نهاية كل مقابلة يُجريها للألتحاق بوظيفة ،

ولكن مدير البنك لم يتطرق لهذا السؤال إطلاقاً ولم يُشعره بنظرات غريبه حين كان ينظر الي وجهه ، وذلك التصرف لم يَعهده الشاب من قبل

بل شعر الشاب وكأن مدير البنك يُشجعه ويدفعه للأمام من دون إشفاق ، كان هذا شيء غريب شيء لم يفهمه الشاب
وسأله مدير البنك
– عايز تسألني عن أى حاجة يا يوسف ؟
تردد الشاب دون أن يجيب
– مالك في إيه ؟ لو عايز تسأل عن حاجه أسألني؟
تردد الشاب لثانيه وسأله
– هو ليه حضرتك ما سألتش عن شكلي وعن البقع اللي في وشئ؟

احمر وجه الرجل وكان السؤال كصاعقة حَلت به

لم يتوقع الرجل أن يسأله الشاب ذلك السؤال بعينه

لطالما حاول اثناء المقابلة ألا يتحدث في هذا الأمر أو يشير إليه بالنظر أو الكلام ، حاول أن يسير كل شيء في سلام وها هو الشاب يسأل عن ذلك !

لم يكن يدرك الشاب بأن الرجل الذي أمامه كان منذ أيّام قلائل يضم إليه أبنه و يمسك به داخل الكابينة، لم يدرك ان دموعاً هادئه كانت تجري علي وجهه البارحة وهو يري المارة ينظرون إلى وجه أبنه ، لم يدرك الشاب كل هذا
غير ان الرجل قد تنبه لسؤال الشاب
– عادي يا يوسف ، المهم هي امكانياتك يا يوسف، وثقتك بنفسك سامع ؟
– متشكر

Leave a Reply

Your email address will not be published.