لماذاً إذاً أصر يوسف إدريس حين أختار عنوان “أرخص ليالي” لمجموعته القصصية الأولى أن يضع حرف الياء بعد حرف اللام لتُكتب كما تنطق باللغة العامية بدلاً من حذف الياء ووضع كسرتين تحت حرف اللام كما تكتب بالفصحى ؟ قد يبدو السؤال سهلاً ساذجاً ولكن الأجابة عليه تحتاج إلي تفاصيل كثيرة،
ينقل لنا المخرج علي بدرخان حوار دار بينه وبين يوسف إدريس عن “أبطال” الأفلام والقصص فيقول علي بدرخان
“يوسف إدريس كان يؤمن بأن الموظف العادي اللي راجع بيته لأولاده وبيتعلق في الأوتوبيس وهو مروح وشايل بطيخة ده بطل”
فالأبطال في قصص يوسف إدريس هم أبطال الحياة الحقيقية ، هم أصحاب حياة الواقع بما فيها من معاناة وأحلام وصراعات وهواجس النفس البشرية ومطامعها ، لذلك نرى يوسف إدريس يكثف كتاباته حول تلك الشريحة من المجتمع “شريحة المهمشين” الشريحة الأكبر من المجتمع المصري وينقل بقصصه تفاصيل حياة هؤلاء الأبطال ويحلل ما يدور في رؤوسهم من أفكار وأحلام ومطامع ويسجل أيضاً الاحتكاك الناتج عن التقاء تلك الشريحة من الأبطال بشريحة أخري من شرائح المجتمع
يقول يوسف إدريس
“كنت قد كتبت مقالاً أنتقد فيه حياة القاهرة وما فيها من زحام ولكنني تلقيت رسالة من فتاة من دمنهور تقول لي فيها (أنا بحسدكم علي العيشة في القاهرة ، ياريت أعرف أجي وأعيش زيكم في القاهرة، دي أمنية حياتي) ” ويكمل يوسف إدريس تعليقه علي رسالة الفتاة فيقول “إذا ما أقبلت فتاة مثل تلك الفتاة إلى القاهرة وإلى حياة المدينة فإنها ربما ستفهم الحياة الجديدة وتلتقط أساليب تلك الحياة أو ربما سيكون مصيرها مثل مصير بطلة قصة (النداهة) “
هكذا كانت فتاة ريفية بسيطة بطلة أحدى قصص إدريس ، و في روايته القصيرة “الحرام” جسد دور البطولة “عزيزة” وهي فلاحة مصرية عادية تقوم بما تقوم به أي مرأة ريفية بسيطة مرض زوجها فقامت هي للعمل “بالأجرة اليومية” ولم تقعد عن العمل يوماً على الرغم من كونها حُبلى حتي لا تفقد الأجرة اليومية وهو المصدر الوحيد لدخل تلك الأسرة الريفية ،
وفي قصة “نظرة” كانت بطلة القصة طفلة خادمة تحمل “صنية بطاطس وصاج مُحمل بالفطائر” وتقف لتلقى نظرة نحو أطفال يتقاذفون كرة من المطاط
و أيضاً شخصية الرجل في قصصه كانت تمثل تلك الشريحة من المجتمع والتي تعيش على هامش الحياة مثل شخصية شعبان أفندي وإبراهيم أفندي في قصة “هي..هي لعبة” وشخصية الحلاق في قصة “أبو الهول” و الصول في “جمهورية فرحات” وغيرها
إذاً كان يوسف إدريس يكتب منذ قصصه الأولى عن هؤلاء الأبطال وعن واقعهم ، يكتب كما قال عن الحقيقة وعن الواقع ويتحدث بلسان حال أبطال قصصه وبلغتهم الخاصة والتي زادت من واقعية القصة و صدق الأحداث وضمنت وصولاً سرعاً لقلوب وعقول القراء ،
وإننا سوف نلاحظ مزيج اللغة في جميع أعماله ما بين العامية و الفصحى والتنقل بينهما في يسر وسلاسة تذوب معها الفواصل بينهما
ولكن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قد أخذ علي يوسف إدريس إفراطه في استخدام اللغة العامية حينما يتحدث في قصصه على لسان أحد أبطاله، فكان يطلق العنان للعامية مادام الحوار دائرًا بين أبطال القصة، يقول طه حسين
“إدريس مفصح إذا تحدث ولكن إذا أنطق أشخاصه أنطقهم بالعامية”.
وفي حوار تلفزيوني علق يوسف إدريس على
إستخدام العامية قائلاً
“حين طالبت بإستعمال اللغة الشعبية ، كان هذا مطالبة بتطوير اللغة الفصحى ليفهمها جمهور أوسع وليس إلغاء اللغة الفصحى لأن اللغة الفصحى حددت المنطقة التي تتحرك فيها وهي منطقة المثقفين ولكن اللغة الشعبية أتسعت وأنتشرت “
وفي الحقيقة هذا التفسير لا يبدو منطقياً ،
فالواقع يُثبت بأن إدريس كان يكتب القصة الواقعية على لسان أبطالها الواقعيين وبلغتهم وهذا لا يعيب ولا ينقص من إبداعه في شيء ، بل إن هذه العامية المستخدمة في الحوار قد أضافت واقعية و مصداقيه و سرعة وصول للقراء والذي كان إدريس حريصاً عليه في في جميع ما يكتب ، وحين أضاف الياء في مجموعته القصصية “أرخص ليالي ” كان أعلاناً عن ميلاد أسلوبه الخاص ونهجه القصصي المختلف و صدرت بعد ذلك مجموعات قصصية أخرى حملت عناوينها دلالات واضحة علي أبطال القصص ولغتهم وواقعهم مثل “لغة الآي آي” و “العتب علي النظر ” و “النداهة” و “جمهورية فرحات” وغيرها
للحديث بقية
#علي_عمر