مضى أكثر من تسعين يوماً منذ أن بدأ الحبس الإجباري بسبب الكرونا، تغلبت في معظم تلك الأيام علي الملل والضجر ولكن اليوم لم أستطع فالملل يملأ هواء المكان و يكاد يقتل نفسي ، جلست إلي جوار مائدة الطعام الكبيرة في “الصالة” لا أجد شيئاً أفعله، ووقع عيني على ذلك السجن الزجاجي الذي يقف عن يميني صامتاً منذ سنوات إنه “النيش” ، ذلك الصندوق الذي أراه منذ خمسة عشر سنة واقفاً في مكانه ، حاملاً عشرات الفناجين والكؤوس، صامداً لا يتبرم ولا يشكو الملل ، ثم رحت أتفحص الفناجين فوجدت واحداً من ذلك النوع الذي أحب أن أشرب فيه القهوة ، غير أنني لم أجرؤ علي فتح “النيش” فذلك الكائن هو قدس أقداس كل بيت مصري، وأكاد أزعم بأننا كرجال لا نملك القدرة والإرادة لخوض تلك المغامرة وفتح ذلك الصندوق السحري المقدس و إستخراج شيئاً من كنوزه الدفينة، و قد لا يسلم الأمر (و هذا ما يحدث عادة و بنسبة مائة بالمائة ) فنحطم شيئاً ما من تلك الكنوز السجينة ثم نستعد بعدها لمعارك قد تطول لساعات ولا تنتهي ، ذلك النوع من الحوادث سيُخلد ويُسرد في كل إجتماع عائلي لسنوات قادمة، علي أي حال إن الأغلبية العظمى منا نحن معشر الرجال نؤثر السلام علي الحرب خاصة إذا ما تعلق الأمر بشيء مقدس عند المرأة مثل النيش، ونحن أيضاً نتجنب أبداء الآراء في قضايا هامة للمرأة مثل تغيير لون الشعر ، أو رغبتها في إنقاص الوزن أو زيادته ، ونشارك رغماً عن أنوفنا في مجاملة أقرباء الزوجة حتي نصل إلي درجة القرابة السابعة ولا نظهر أو أعتراض أو ضجر ، ونحن كذلك و في العموم نؤمن بأن الرأي الصائب دائماً ما يكون هو رأي المرأة ، فاكتفيت بالنظر إلى الفنجان من خلال الجدران الزجاجية للنيش ، ثم وجدت نفسي تُعلن السخط علي هذا الفنجان وتستنكر سجنه ، وإذا بي فجأة أسمع همس عقلي يتحدث إليه العقل: الفنجان: معذرة ، ماذا تعني تلك الكلمة “الحرية”؟ العقل: الفنجان: العقل: الفنجان: العقل: الفنجان: العقل: الفنجان: العقل: الفنجان: العقل: الفنجان: العقل(في تردد): الفنجان: العقل: الفنجان: العقل: الفنجان: العقل: ولكنها حياتك ؟ الفنجان: وما فائدة حياتي الأن أخبرني؟ العقل: أنت الأن آمن ؟ الفنجان: أتشوق للمغامرة علي حساب الأمان ، أتشوق لإيجاد معناً لحياتي العقل (في تردد): فكر جيداً ؟! الفنجان: لقد أتخذت قراري ، قم من مكانك وأنهض وأخرجني من ذلك السجن ، ودعني أشم رائحة الحرية ؟ العقل: ولكن ؟! الفنجان: أرجوك ؟ قمت من مكاني وأتجهت نحو النيش بحذر وفتحت بابه وكأنني لص يخشي أن يُسمع صوته ، ومددت يدي نحو الفنجان وأمسكت به ثم أخرجت يدي في هدوء وحذر ، وأتجهت به نحو المطبخ فقمت بغسل الفنجان بالماء والمنظف وكدت أستشعر سعادة الفنجان وهو يلهو بين أصابعي فرحاً بأول لحظة يعرف فيها معناً جديداً للحياة ، ثم أعددت القهوة وجلست إلي جوار مائدة الطعام الكبيرة أستمتع بالقهوة راضياً بما منحت الفنجان من حرية ، ثم عدت من جديد إلي المطبخ وقمت بتنظيف الفنجان بحذر وأتجهت مرة أخرى نحو النيش لإعادته إلي مكانه العقل: كيف كانت التجربة ؟ الفنجان: إلى أين أنت ذاهب ؟ العقل: نحو النيش ؟ الفنجان: لماذا ؟ العقل: لقد فعلت ما طلبته مني وحررتك من دون خسائر . الفنجان: ولكن هذا ليس عدلاً العقل: ليس هناك عدل في الدنيا الفنجان: أستحلفك ، أخرجني من ذلك الصندوق؟ العقل: لا تطلب مني ما لا أستطيع فعله ؟ الفنجان: حررني ؟ العقل: يا ليتني ما فعلت ؟ الفنجان: العقل: الفنجان: العقل: ليس لك شأن بأمري . الفنجان: العقل: أصمت من فضلك ؟ الفنجان: أنت لا تعلم شيئاً عما شعرت أنا به من حرية ؟ العقل: كفى ؟ الفنجان: حطم خوفك ؟ العقل : أصمت أرجوك ؟ الفنجان : أضف معناً جديد للحرية مهما يكن الثمن ؟ وطاردت عقلي الأفكار والأسئلة وشعرت بأن رأسي يكاد ينفجر وبينما هممت بفتح باب النيش بيميني وكنت أمسك الفنجان بيدي اليسرى إذا بالفنجان يسقط فوق الأرض ، تسمرت في مكاني وعقلي يردد سقط شهيد الحرية وعاش سجين الخوف والإجبار .
خمسة عشر سنة وأنت قابع ههنا في ذلك السجن الزجاجي ، خمسة عشر سنة ولم تقم بالدور الذي وُجدت من أجله ، ألم تشعر بخيبة الأمل ؟ ألم تشعر بالضجر و الملل ؟ ألم تراودك الرغبة في الحرية و الخروج من ذلك السجن ؟
الحرية …الحرية هد التخلص من العبودية التي تكبل طاقتك والتخلص من حياة الإجبار التي تعيش فيها الأن داخل سجنك الزجاجي ؟
هل هناك حياة أخري غير تلك الحياة ؟
تبدو كالمجنون ، لا تفقه شيء عن الحياة !
صدقني أنا لا أعرف إجابة لما سألتك عنه.
أجل هناك حياة أخري خارج السجن ، حياة تقوم فيها بالدور الذي وُجدت من أجله.
وما الدور الذي وجدت “أنا” من أجله ؟
أخبرني أنت أيها الفنجان البلوري ؟ لماذا وجدت في هذه الدنيا؟
أقسم بالله أنني لا أدري.
وُجدت لمساعدة الإنسان في شرب ما يود من ماء و شراب ، ولهذا السبب قام شخص ما في مكان ما بصُنعك
لم أجرب تلك الحياة من قبل فمنذ اليوم الأول لي هنا في هذا البيت وأنا حبيس ذلك الصندوق، كم أود أن أخوض تلك التجربة ، وأستشعر تلك الكلمة التي قولتها أنت “الحرية” ، صدقني أنا لا أدري كيف سيكون حالي حين أشعر بالماء وهو يلامس سطحي أو حين أحمل شراب ما لشخص ما ، لم أجرب تلك اللحظات ، لقد حُرمت تلك المتعة .
أشعر بك صديقي وأشفق عليك
إنني متشوق لخوض تلك التجربة
ج…ج…جميل …. أجل هذا شعور جميل
ساعدني إذاً كي أخوض التجربة وأتحرر ؟
لكني أخشي أن يصبك أذى ، فأنا لا أجيد التعامل مع الفناجين والأطباق .
هذا لا يهم .
ولكن ربما تفقد حياتك !
سأفقدها من أجل شيء ثمين وهدف غال
لقد قمت بعمل عظيم ، أكمل دورك ، وتحرر أنت من خوفك
ليس الأمر بهذه السهولة ؟
تخلص من حياة الإجبار التي تعيش فيها ؟
هل أنت راض عن ذلك الإجبار وتلك القيود التي تعيش فيها ؟