الراهبة

الراهبة

جلست الأخت “صوفيا” علي المقعد رقم ٣٥ فى العربة الثانية بالقطار المتجه إلى الإسكندرية ومالت برأسها نحو الأمام تنظر إلى الأرض وكأنها تغض البصر عن الدنيا ، هذه ربما هى المرة الأولى التي تخرج فِيهَا من الدير في زيارة قصيرة ستعود بعدها وفي نفس الْيَوْمَ الي القاهره من جديد ، جلباب أسود وصليب خشبي يتدلى فوق صدرها ، رأسها مُغطى بقلنسوة تحمل أثني عشر صليباً وأزاحت القلنسوة قليلاً نحو الوراء فظهرت بعض خصلات شعرها الكستنائى الناعم !

الحقيقه أن “صوفيا” كانت صاحبة جمال يثير الحيرة والعجب فما لتلك الجميله بحياة الراهبنة وشطف عيش الأديره ؟!

 

وشيء أخر يثير العجب وهو ذلك المزيج الغريب في نظرات عينها ، شيء يحمل نظرات الزاهدة فى الحياة ويحمل معه أيضاً الحرمان من تلك الحياة !

 

قالت لها بعض الأخوات في الدير إن في نظرات عينها رحمة تشبه ما كان في نظرات المسيح وهو ينظر إلى أم ثكلى أو حين ينظر إلى مريض يأن بألمه !

 

كانت صوفيا تحمل رسالة من رئيسة الدير إلى بطريرك الكنيسة بالإسكندية وأختاراتها رئيسة الدير دون غيرها من الأخوات بما رأته فيها من زهد للحياة وفيض أخلاص للمسيح

 

تذكرت سنواتها الثلاث الأولى في دير الراهبات بمصر القديمة وكانت تخشى ألا يقبلها الدير كراهبة بعد تلك السنوات الثلاثة فرئيسة الدير كانت تفضل أولئك الفتيات اللاتى لم يسبق لهن “الخطوبة”

ولكن صوفيا كانت قد أنهت “خُطوبتها” وقطعت علاقتها كل علاقة لها بخطيبها الأسبق قبل أن تعلن قرارها ورغبتها الخالصة في الالتحاق بالدير كراهبة ،

الجميع كان يعارض تلك الفكرة بل أن الجميع أصروا علي أن قرارها بالالتحاق بالدير ما هو الا رد فعل عكسى بعد أن فسخت خِطبتها بزميل لها في العمل ، كانت ايّام عصيبةً عليها حاولت فيها أن تثبت للجميع بأن قرار التحاقها بالدير لا علاقه له بفسخ خطبتها بل علي العكس لقد فسخت الخطوبه من أجل حلم كان يراوده منذ طفولتها الا وهو حلم أن تصبح راهبه وخادمة للمسيح !

 

إستعانت بكاهن كنيستها فلقد أعترفت له مرات ومرات برغبتها في الترهبن ولكنه نصحها بأن تصبر حتي تُكمل دراستها أولاً وبأن تعمل وسألها أن تعيد التفكير بعد عدة سنوات وبالفعل تخرجت وعملت في احد البنوك الكُبرى وأرتبطت بزميل لها ولكن الفكره كانت تطغى عليها وتدفعها نحو الدير دفعاً حتي أتخذت قرارها وتأكد الجميع من أن لا شيء سيحول بينها وبين رغبتها في العيش كراهبة!

 

رفعت رأسها بحذر ولا تدري لماذا راودها شعور بالرغبة في أن تنظر إلى وجوه الراكبين فلقد مضت سنوات دون أن تختلط بأحد !

أختلست النظر الي شاب كان يجلس الي جوار

فتاة وهو يمسك بيدها، أحست بنبضات قلبها تتسارع كيف لها أن تفعل ذلك ؟ كيف لها أن تنظر اليهم نظرة الراغبة في تلك الحياه !

كيف لها أن تراودها نفسها بتلك المشاعر الأن

لقد مضت سنوات أربع لها في الدير كانت فيه مثال للذهد حتي أثارت أعجاب رئيسه الدير فقرابتها إليها وأحبها الجميع !

لماذا تعاودها تلك الرغبات في العودة الي الحياة الدنيويه ؟!

 

راحت تُذكر نفسها باليوم الذي صلى الجميع فيها صلاة جنائزية أمام جسدها الممدد أمام المذبح وهى مغطاة من رأسها إلى قدميها بغطاء أحمر أعلاناً بموتها عن حياه ذلك العالم وميلادها فى عالم يسوع !

ما كان لها أن تختلس النظر إلى من فى القطار !، وأفزعها شعور أخر فربما لمحها أحد الركاب وهى تنظر الي ذلك الشاب وإلى تلك الفتاة!

لابد أنها بذلك قد أعطت انطباعاً غير صحيح عن الراهبات بل عن حياة الدير برمتها !

راحت تجلد نفسها و تلوم رئيسة الدير في سرها لماذ اختارتها هي دون غيرها لتلك المهمه ؟

أما كان لها أن تختار أحداً غيرها ؟!

لماذا عرضتها لكل ذلك الصراع النفسى ؟!

شعرت بالحنق علي رئيسة الدير ، بل وأندفعت تنتقد أيضاً بعض خصال تلك السيدة !

ثم عادت تلوم نفسها من جديد ، كيف لها وهى من رحلت عن الحياة أن تنتقد الأخرين بل وتحكم على تصرفات من هم أقرب إلى المسيح منها !

 

أحست وكأن هناك من ينظر إليها ويراقبها فلم تصمد طويلاً ولم تستسلم لذلك الشعور فرفعت عيناها لتري سيده مُحجبة تنظر اليها نظرة فيها أستنكار وأشمئزاز أو هكذا أحست !!

 

أثارتها تلك النظرة وشعرت برغبة في الشجار مع تلك السيدة ثم هدأت قليلاً وجلدت نفسها من جديد كيف لها أن تفكر في شجار ! وهى من هى راهبة قد ودعت الحياة

 

يكاد رأسها ينفجر من تدافع تلك الأفكار والصراعات، فأغمضت عينها وراحت تتلو صلوات بلا صوت وطال الوقت حتى أحست بالقطار يتوقف أخيراً فنفضت عنها الدنيا ونهضت مسرعة كمن يفر بنفسه من الحياة !

 

الجمهورية أونلاين

الخميس 7 نوفمير 2019

 

https://www.gomhuriaonline.com/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D9%87%D8%A8%D8%A9/501748.html