الربابة

الربابة

في السابع من أكتوبر عام ١٩٧٣، جلس علي “سلم” في مبني الأذاعة والتليفزيون المصرية يكتب !

 

أجل جلس يكتب في بساطة كلمات فاض بها قلبه و لم يكن يدرك ساعتها بأن تلك الكلمات ستعبر عشرات السنين وستبقي خالدة في وجدان كل مصري وستتغني بها أجيال وأجيال تأتي !

لم يكن يفكر في خلود كلماته بل كان يلقي فقط ما تفيض به نفسه من مشاعر علي صفحات وريقات يمسكها !

 

ولكن دعونا من تلك اللحظة الأن ومن ذلك اليوم ولننتقل إلي منزل الأستاذ “بليغ حمدي” حيث كانت أخته السيدة “صفية” تُوقظه من نومه، وكان عادة لا يستيقظ من النوم مبكراً وتقول له

– قوم بسرعة ؟ الجنود عبروا القناة

 

ويرد عليها بليغ حمدي وهو لا يزال نائماً

 

– أقوم أعمل إيه دالواقتي ؟

 

– قوم حارب زيهم

 

وينهض “بليغ حمدي” ويجري اتصالاً برئيس الأذاعة المصرية وقتها الأستاذ “وجدي الحكيم” ثم يتصل بصديقه الشاعر الرائع “عبد الرحيم منصور ” والفنانة “وردة” ويتفقوا جميعاً علي الذهاب إلي مبني الأذاعة والتليفزيون، لم تكن هناك خطة محددة لعمل شيء ما ، ولكن كانت هناك رغبة صادقة وشعور غامر بالمسئولية يدفعهم نحو المشاركة، مشاركة الجنود بما يملك كل واحد منهم من موهبة

 

قال بليغ حمدي لعبد الرحيم منصور

 

– هتعمل إيه يا عبدالرحيم و جنودنا بتحارب وبتعبر القناة ؟ رد عليه عبدالرحيم بلكنته الصعيديه قائلاً

 

– يا بووي.. أرجع جناه (قنا) وأمسك الربابة وأغني !

 

– أكتب يا عبد الرحيم …أكتب الكلام ده!

 

فخرجت من قلبه

 

” حلوة بلادي السمرا بلادي الحرة بلادي

وأنا على الربابة بغني ما املكش غير انى أغني واقول تعيشي يامصر وأنا على الربابة بغني واقول ما املكش غير غنوة امل للجنود … أمل للنصر ليكي يا مصر ليكي يا مصر حلوة بلادي “

 

الشعراء لهم قدرة عجيبة علي تكثيف الأحداث والمشاعر والصراعات ونسج الكلمات وإصباغها موسيقي سمعية لا يستطع غيرهم من أهل القلم والكتابة أن يأتوا بما يأتي به هؤلاء القوم

 

ولكن العجيب هنا “كيف أستطاع عبد الرحيم منصور أن يخلق تلك القصيدة بهذه السرعة وهو جالس علي درجات “سلم” ؟ “

 

ولدت تلك القصيدة في يُسر و بتلقائية وعرفت طريقها بنفس السرعة إلي قلوب المصريين

 

هل لاحظتم أنه ليس هناك أي ديكورات في الأستوديو وحتي الممثلين الذين ظهروا في الأغنية هم بعض العاملين بالأذاعة والتليفزيون؟!

 

ربما صدق الأحساس والشعور بالمسئولية والرغبة العظيمة في المشاركة مع الموهبة و تلقائية الحدث هو ما أخرج إلي النور تلك الأغنية الخالدة

 

ونعود إذاً إلي عبد الرحيم منصور

 

كنت في طريقي إلي الساحل الشمالي ، عادة أنا لا أمعن التأمل كثيراً في كلمات الأغاني ولكن في هذه المرة شردت مع كلمات الأغنية وكأنني أسمعها لأول مرة و رُحت أعيد سماعها لمرات ومرات ، وتعجبت كيف أستطاع أن يكتب تلك الابيات الرائعة من وحي خياله ؟! مما لا شك فيه أن عبد الرحيم منصور كان يعيش تجربة حقيقية خاصة جعلت قلمه ينبض بتلك الأبيات ، لا يمكن أبداً أن تخرج تلك الكلمات من قلب وعقل شخص دون أن تكون هناك تجربة حقيقية زلزلت كيانه ؟ ليس لدي دليل علي ذلك ولكنه شعوري الداخلي يؤكد لي ذلك الأعتقاد، أعرف جيداً كيف أفرق بين ما يكتبه الشعراء من وحي الخيال وبين ما يكتبونه عن تجربة حقيقيه ؟ مجرد شعور داخلي يجعلني أدرك ذلك الفارق ، علي العموم عندي يقين بأن عبد الرحيم منصور كان يمر بتجربة ما أو ربما كان يستعيد مشاعر ما مرت به حين كتب فينك أنا من غيرك أنا مش عاقل ولا مجنون أنا مطحون والدنيا دى رحايه وقلبى حب الحب وحبابه عيون شجر اللمون دبلان على أرضه

 

سألت أبنة أخيه الشاعرة “مي حمدي منصور

عما كان يُلهم عبدالرحيم منصور فيكتب عشرات القصائد والأغنيات؟ فأجابت “الحب”

 

فأمعنت التأمل من جديد فيما كتبه عن الحب ودُهشت من مفردات اللغة التي يستخدمها والتي تعود جميعها إلي بيئته الخاصة والي حياته هناك في “قنا” ، ووصلت إلي قناعة بأن عبد الرحيم منصور كان يكتب الحب علي طريقته الخاصة وفي بيئته الخاصة و يضيف في معظم قصائده وأغانيه أبيات رائعة و عظيمة عن فلسفة الحياة والأنسان !

 

ودعونا ننظر إلي أسفل شاهد هذا القبر ونقرأ شيئاً من تلك الفلسفة

 

“لا يهمني اسمك، لا يهمني عنوانك، لا يهمني لونك، ولا ميلادك، يهمني الإنسان، ولو ما لوش عنوان “

25 يناير 1926 و27 يوليو 2008.

 

وهذا القبر هو للمخرج العالمي “يوسف شاهين ” الذي أوصي أن تُكتب تلك الكلمات علي قبره وهي جزء من كلمات أغنية “حدوتة مصرية” للشاعر عبد الرحيم منصور

 

وفي يوم رحيله أتصل عبد الرحيم منصور بأخواته ووالدته وكلمهم واحدة واحدة وقال لهم

 

– وحشتوني وهجيلكم قريب قوي ولم يستطع سماع صوت أخيه حمدي منصور لأنه لم يكن بالمنزل ساعتها فترك له السلام والتحية

 

قضى الليلة في منزل بليغ حمدي ثم عاد إلى منزله بصحبة سائق بليغ ، دخل المنزل و أخبر زوجته بأنه يشعر ببعض المرض، ذهبت زوجته الي المطبخ لتغلي له كوباً من أعشاب أحضرها معه في آخر مرة سافر إلى الصعيد و أتت إلى الغرفة بيدها كوب الأعشاب وأخذت تنادي عليه فلم يرد..

وتلك كانت نهاية الشاعر الجميل عبد الرحيم منصور

 

ذلك الشاعر العاشق للحرية والذي كتب في رباعيات الموت والميلاد

 

سيبونى أمشى لوحدى

سيبونى أتوه عريان

الدنيا توب على قدى

وما أطقش أنا الغطيان

 

 

موقع الجمهورية أونلاين

(٤ ديسمبر ٢٠١٩ )

Leave a Reply

Your email address will not be published.