“سعيد” و “عادل” ثم “الدار ” ، لابد من شراء مناشف جديده وراح يتمتم بصوت متقطع
“أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضًا”
………………………………………………………………………………………………..
ثلاث عشرة سنة مضت لم يتحدث فيها لأحد سوى لتلك الأسماء التي يذكرها كل يوم و أسماء قليلة أخرى أذا ما أضطرت حاجته لذلك!
الأسماء في الأغلب تتبدل مع الأيام ، يختفي بعضها أو تختفي كلها وتتبدل وتبقي كلمتان فقط يذكرهما كل صباح “الدار” و “المراحيض”
ليله البارحه أحس بوهن وكأن جسده قد شارف علي الموت، الوسادة مبلله من دموع سالت طوال الليل، الصور هي نفسها تطارده كل ليله فيرى في سقف غرفته “مضخة” الهواء ، يري لون الدم الأحمر يندفع اندفاعه الأخير تحت الجلد ثم يرى صورةً لوجهها وفوقه قناع بلاستيكي، يرى عيناها تنظر إليه ، نظرة أمتدت لثانيه واحده أو ربما ثانيتين (عفواً هذا وصف خاطىء فنظرتها الأخيرة أمتدت لثلاث عشرة سنه كاملة فهو يراها كل ليلة ويراها في وجوه أصحاب تلك الأسماء التي يكررها كل يوم قبل أن يخرج من بيته)
أمسك بالكتاب المقدس وتوقف عند مشهد يسوع وهو يصلى وحده على قمة الجبل، وتلاميذه جميعًا في البحر راكبين السفينة والأمواج تعصف بها وبهم ، تركهم المسيح معذبين بين الأمواج قرابة الليل كله وهم في وسط البحر، وفي الهزيع الرابع من الليل مضى إليهم يسوع ماشيًا على البحر
فتمتم الأستاذ مكرم بصوت قطعته الدموع
“يسوع لا تتركني و تأتني في أيام عمري الأخيرة إن نفسي تأن عذاباً ، خلصني وهب لي نعمتك لأحمل صليبي وأتبعك”
ثم طوي الكتاب المقدس ووضعه بجوار سريره وكان الليل طويلاً وثقيلاً ككل لياليه وما أن
نفذ نور الصباح الي غرفته نهض وهو يذكر “الدار” و “المراحيض” !
………………………………………………………………………………………………..
دار المسنين
كانت الفتاه تنتظره كل يوم في “الدار”، تحمل مشاعر ممتزجة تجاه الرجل فهو يثير سخطها لفظاظته وتجاهله للجميع وهو أيضاً يثير فضولها فهو لا يرد علي أي تحية توجه إليه من أي شخص في الدار ، فقط يأتي ويذهب كأنسان آلي يقوم “بالخدمة ” بشكل روتيني ولا يتحدث الا مع المسنين الموجودين في الدار فقط،
يأتي كل يوم ويبدأ اول ما يبدأ بتنظيف المراحيض وعلي الرغم من أنها في أغلب الأحيان تكون نظيفة الا أنه يعيد تنظيفها بنفسه مره أخري كل يوم ،
إزداد سخطها نحوه حين تذكرت يوم أن أرادت أن تتحدث إليه
- كيف حالك أستاذ “مكرم” ؟
رفع عينه اليها ورد بأقتطاب
- بخير !
ثم أشاح بوجهه عنها وأنصرف ، أثار حنقها ذلك السلوك الغريب فمن أبسط قواعد الذوق أن يرد إليها الحديث ويسألها عن حالها ، وهى من هى ؟فتاه في مثل عمر بناته إن كان له بنات أو أبناء !
أستبدل ملابسه وأتجه نحو المراحيض فنظفها ثم راح يطوف بين حجرات الدار يلقي تحيه الصباح علي النزلاء ويجمع ما أتسخ من ثياب لتنظيفه ،
الجميع هنا يحترمونه ويكنون له حباً خفياً ، الكل يدرك أنه كان “يخدم” بروحه قبل جسده ، والكل يدرك أن روحه قد غادرت جسده منذ سنوات ،
إلا تلك الفتاة فهي تحترمه من أعماقها ولكنها لا تطيق “فظاظته” خاصه في تلك اللحظات القصيرة التي تجمع بينهما فهي تتوقع منه حسن المعاملة أو على أقل تقدير نفس المعاملة التي تعامل بها نزلاء الدار !
الفتاة تعمل في الدار وتشرف علي بيانات النزلاء ويجمعها أحاديث مع الاستاذ مكرم حين يدخل غرفة أحد النزلاء فلا يجده أو حين يجد نزيل جديداً بالدار أو حين ينتقل أحدهم الي السماء أو حين يُمرض أحدهم في المستشفى، تلك هى الظروف فقط التي يبادر فيها الأستاذ مكرم بالحديث إلى الفتاة
طلبت منه أحدى النزيلات أن يجلس إلى جوار سريرها وأخذت تبث بشكواها إليه من هجر الأبناء وما حل بها في أيامها الأخيرة ، ذلك النوع من الأحاديث المكررة في كل دار للمسنين
أخذ يستمع إليها في هدوء دون أن ينطق بكلمة ثم تحركت الدموع علي وجهها وكانت السيده تنتظر منه أن يجيب عليها ولم تكن تعلم أنه لم يكن يسمع ما تقوله فلقد كان يصرخ من داخله صرخه لو خرجت منه لشقت السماء
كان يتألم طالباً الخلاص راجياً ملكوت السماء بينما عيناه تنظر إلى وجه أبنتة في لحظاتها الأخيرة
بادرته السيدة
- أشكرك أستاذ مكرم ، يبدو أنني قد أثقلت عليك بشكواى؟
- لا عليك سيدتى ، أنت أمرأه طيبة!
- ليبارك يسوع حياتك
نهض من مكانه متأهباً للرحيل فلقد حان وقت زيارة “سعيد” وبعدها زيارة أستاذ “عادل” ثم سيعود الي الدار مره أخرى
قام من مكانه ولا تزال الصور تطارده ثم أنصرف
مضت ساعات قبل أن يعود في نحو التاسعة مساءً إلى الدار وفور وصله فاجأته الفتاة
- معذرة أستاذ مكرم ، لقد طلبت منك بألا تأتي في تلك الساعه المتأخرة ، فمعظم من في الدار ينامون في ساعة مبكره ، ووجودك هنا قد يوقظهم ويأرق نومهم
- المراحيض يجب أن تنظف والملابس قد جفت وعلي أن أرتبها وأوزعها امام الغرف قبل الصباح !
- من قال لك أن المراحيض تحتاج الي نظافة الأن ؟ ومن أخبرك أنه لا يوجد أحد لجمع الملابس الجافه وتوزيعها علي الحجرات ؟!
- سأنظف المكان وسأذهب في هدوء دون أن أوقظ أحد
كان يريد أن يُنهك جسده بل يُعذبه إلى أقصي حد قبل أن يعود الي بيته، ولم تستطع الفتاة منعه في تلك الليله ، أخذ العرق يتصبب منه وقد أحنى ظهره إلى الارض ينظيف البلاط و يحك قطعة القماش المببلة بالماء في قوة وبعصيبة تُخبر ببركان يمور ويتأهب للفظ حمامه علي المكان، ظل يعمل لساعات حتي أُنهك تماماً فنهض وأنصرف في هدوء كعادته !
………………………………………………..
صباح الْيَوْمَ التالي كانت الفتاة تتجهز للقائه في الدار وقد عزمت أمرها علي ألا تسمح له بالحضور في الليل ولكنها لم تمن تدرك بأن الأستاذ مكرم
قد تحقق له ما أراده منذ ثلاث عشرة سنه،
في صباح ذلك الْيَوْمَ أنتظره نزلاء دار المسنين فلم يأتى وأنتظره مرضى السرطان فلم يأتي لخدمتهم ككل يوم !
صعدت روحه للسماء في الليل وهو يرى صورة إبنته في سقف غرفته ، كانت في التاسعه من عمرها، يعلم أنها لم تكن لتعيش طويلاً فلقد ولدت بضمور جزئي في المخ وماتت أمها يوم مولدها ، أستعاد صورتها وهي ترقد فوق سرير المستشفي ، الأسلاك تحيط بها من كل جانب ، الأطباء قد وضعوها علي جهاز للتنفس الصناعي يعمل يدوياً حيث لا يوجد غيره في المستشفي فأخذ يضغط بيديه علي المضخه الهوائي ليضخ اليها الحياه استمر هكذا لثلاثة أيام تناوب معه العمل فيها من كان بجواره من الأهل والأطباء حتي كانت الليلة الاخيرة حيث بقي وحيداً لعشر ساعات يضخ الهواء وحده وفجأة ودون إراده منه توقفت يداه عن العمل فلم يعد يقوي علي الإستمرار وأدرك ان الساعه حانت فسقطت المضخه من يده وأخذ ينظر في هدوء الي وجهها وقد تورد بلون أحمر عجيب تلاشي سريعاً وتبدل إلى لون رمادي خفيف يميل إلي الزرقة
رحلت أبنته في تلك الليلة ولكنه ظل هكذا ينظر اليها حتي الصباح !
تجرع جبالاً من ألم منذ ذلك اليوم فأقسم أن يقمع جسده ويهلكه في خدمه المرضى واهباً أيامه حياته ولياليه لهم !
وحين صعدت روحه الي السماء كان يتمتم
“حتي لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضًا”
الجمهورية اون لاين
الخميس 22 نوفمبر 2018
https://bit.ly/2Ahrvx6
Leave a Reply