ترى ما هي الحالة التي كان يمر بها “سيد سالم” حين بدأ “الصولو” الخاص بالناى، و خرج عن اللحن الأصلي بطريقة عبقرية بنغمة غاية في القِصر ، أذهلت جميع المستمعين طرباً وأشعلت القاعة بالتصفيق؟
كان التصفيق هذه المرة ل “سيد سالم ” ولنايه ، وليس لكوكب الشرق أم كلثوم ، والتي نظرت خلفها نحو عازف الناي الأول في مصر والعالم العربي حين خرج عن سياق النغم و تسألت “إيه ده ؟!”
حدث هذا فى حفل سينما قصر النيل، عام 1966، حيث كانت كوكب الشرق تغني أغنيتها الشهيرة “بعيد عنك”، وعازف الناي سيد سالم يجلس خلفها مباشرة ، وجاء دوره للعزف صولو وتحديداً قبل كوبليه “لا لوم ولا دمع فى عينيا” حيث خرج سالم “خروج غير آمن” عما تدرب عليه في بروفات الأغنية ، وهذا الخروج مع قامة مثل كوكب الشرق قد يُعتبر “خروج غير آمن”
ولا أحد يستطيع تفسير سؤال أم كلثوم،
هل استنكرت ما فعله “سالم” ؟
هذا جائز فكوكب الشرق كانت حريصة كل الحرص علي الالتزام الكامل باللحن وعدم الخروج عما تم التدريب عليه قبل العرض حتي قيل لقد كانت فرقه أم كلثوم تقوم بأربعين “بروفة” قبل العرض ، حتي تطمئن بأن كل شيء علي ما يرام ، وبأن جميع أفراد الفرقة الموسيقية علي أتم الاستعداد لإقامة الحفلة ، ونحن جميعاً نعلم بأن فرقة أم كلثوم تعزف من غير نوتة موسيقية أمام العازفين
أم أن صيحات الجمهور وتصفيقهم ل “سيد سالم ” جعلت أم كلثوم تشعر بأن شخصاً أخر سحب آهات الجمهور منها ؟ أم أنها أعجبت بما سمعته؟ فملامحها وهي في حالة انسجام يصعب معها تحديد ما دار في ذهنها في هذه اللحظة.
غير أن موقفاً مشابهاً حدث مع عازف القانون “عبده صالح” في إحدى حفلات أم كلثوم فى ستينيات القرن الماضى أيضاً ، حين كانت تغنى “دليلى احتار”، و التى كتبها أحمد رامى ولحنها رياض السنباطى، وبدأ عبده صالح بعزف صولو بالقانون وسط اللحن، وعندما أدى المقطوعة الصولو الخاصة به، انبهر الجمهور بجمال العزف فخرجت من كوكب الشرق جملة “الله يخرب بيتك”، ولكنها طلبت منه تكرار الصولو قائلة
“قول يا أخويا تانى”.
غير أن صولو “سيد سالم” جاء مختلفاً فهو وليد اللحظة عفوي وعبقري وهذا ربما ما أثار دهشة سيدة الغناء العربي ، أما “عبده صالح”
فلم يخرج عن اللحن المقرر له إنما أجاد العزف وأطرب جمهور الحضور ، تلك المجازفة وذلك الخروج فعله “سيد سالم” دون أراده منه فلقد سيطر عليه شيء ما في تلك اللحظة ، شيء دفعة دفعاً للإنشاء وللخلق، هذا الخلق والإبداع يفوق النسخة الأصلية ويطرب الجمهور أكثر من النسخة الأصلية ، ذلك الشيء هو “السلطنة” والاندماج الكامل والتحليق في سماء الإبداع ، تلك اللحظة التي يخرج الفنان فيها عن المألوف ويفقد السيطرة علي روحة وتتولي الروح قيادة كل شيء ويترك الفنان نفسه تماماً لتحلق وتبدع حتي تنتهي تلك اللحظة الذهبية والحالة الفريدة في حياته، ولقد وهب الجمهور بطاقة خروج آمن لسيد سالم حين دوى التصفيق لمرتين متتاليتين مع كل خروج لعازف الناي الأول عن النوتة الأصلية
علي أي حال لم يكن هذا الموقف الوحيد الطريف الذي حدث بين أم كلثوم و سيد سالم ، ففي إحدى الحفلات تعرضت كوكب الشرق لمأزق أثناء غنائها “أنت عمري” حينما نسيت كلمات الكوبلية، وأخدت تعيد كوبليه «يا أغلي من أيامي يا أحلى من أحلامي» لينتفض سيد سالم، تاركاً عزف الناي و يُلقن أم كلثوم بالكلمات التي نسيتها وبصوت مسموع ، ولكن شعور “سالم” هنا كان شعور أقرب بالمسئولية والحرص علي خروج كوكب الشرق والفرقة من ذلك المآزق ، ومن سيرى مقطع الفيديو سيرى كيف أشارت أم كلثوم بيدها اليمنى نحو “سيد سالم” ليُخفض من صوته أو ربما أردت أن تقول له “تذكرت الجملة ” ، هذا الفنان يملكه القلب وليس العقل وتسيطر عليه الروح وليست القيود
ويستجيب لنداء الروح وللحظات “السلطنة”
والحقيقة إن شعور “بالسلطنة” هذا ، شيء حى متحرك يلحظه الجميع بل إنه يسري و ينتقل من المبدع إلي الجمهور ، فيُطرب الجمهور و “يتسلطن” كما يفعل الفنان ، بل ربما يبدع الجمهور أيضاً مع إبداع الفنان ،
أننا لا يمكننا أنت ننسى تلك الجملة التي أصبحت خالدة الذكر ومرتبطة أرتباطاً وثيقاً بكوكب الشرق تلك العبارة التي خلقها الحاج “سعيد الطحان” وكان يجلس في الصف الأول في جميع حفلات أم كلثوم وفي أحدى تلك
الحفلات تسلطن الحاج “الطحان” فصاح
” عظمة ..علي عظمة ..علي عظمة ..علي عظمة …يا ست” !
Leave a Reply