بعد منتصف الليل وتحديداً في الليلة الخامسة عشر من يوليو من عام ١٩٠٤ نهض من نومه وطلب أحضار طبيبه المعالج وفور وصول الطبيب قال له
“إنني أحتضر …. ما من داع لأنبوبة الأكسجين …إنني سأغادر قبل وصولها ! “
ثم غادر الحياة بعد دقائق ، هكذا رحل أعظم كاتب للقصة القصيرة في التاريخ الحديث إنه أنطون تشيخوف !
هل تصور أنطون تشخوف حين نشر أولى قصصه القصيرة بأن تلك القصص ستغير مسار “القصة القصيرة” ليس في روسيا وحدها بل في العالم أجمع؟
إننا نجلس الآن ونعاود قراءة تلك القصص ونحن في القرن الواحد والعشرين ولا تزال علامات الدهشة تعلو وجوهنا بل إننا وبعد الانتهاء من القراءة نحتاج الي بعض الوقت نجلس فيه وحدنا في عزلة قصيرة نسترد فيها أرواحنا قبل أن نعود تدريجياً إلي عالمنا الحالي وإلى واقعنا
هل كان أنطون تشيخوف يعتقد بأن قصصه سوف تُحدث ذلك الأثر في كل تلك الأجيال وفي أجيال أخري ستأتي ؟
إننا نجده وفي أحدى كتاباته عن مفهوم السعادة يتنبأ بشيء مشابه، شيء يتحدث فيه عن قيمة العمل والتي يقول عنها
“فلنتأمل تلك الحياة ، تلك التي ستأتي بعدنا خلال قرنين أو ثلاثة ، هل نشارك فيها ؟ هذا أمر مستحيل ، ولكننا نعيش من أجلها الآن ، نعمل ونعاني ، نحن نخلقها وهذا هدف وجودنا بل وسعادتنا ، علينا أن نعمل ونعمل أما السعادة فهي لأحفادنا بعد زمن طويل “
ومن قرأ لتشيخوف سيدرك بأن ذلك العملاق كان يحمل مسئولية عظيمة ورسالة يريد أن ينقلها إلى العالم أجمع ، رسالة ينقل فيها الواقع والحقيقة كما هي ، من دون استعارات ومبالغات ، ينقل معاناة البسطاء ومآسيهم ويتغلل في أعماق النفس البشرية ودوافعها فتخطى بقصصه تلك حدود روسيا الضيقة ليصل بها إلي حدود الإنسان الأشمل و بعيداً عن محدودية الزمان والمكان ، نقل ذلك في صدق وعفوية ومصارحة عجيبة جعلت منه كاتباً محبوباً في كل مكان وجعلت من أدبه أدباً خالداً مناسباً لكل الشعوب وكل الأزمان !
يقول الأديب الروسي “مكسيم چوركي” عن تشيخوف
“لقد كان تشيخوف يغرف من الواقع الحي، والقوة الهائلة في موهبته تكمن في أنه لم يخترع أبداً من نفسه ولم يصور ما هو غير موجود في الواقع “
بل إن ڤلاديمير لينين قال عن رائعة تشيخوف
” العنبر رقم ٦ ” لقد صور في قصته تلك الحياة في روسيا بكل تفاصيلها في ذلك الوقت ،
ولقد استطرد تشيخوف في مقدمة تلك القصة الخالدة بطريقة جعلت القاريء يشعر بالملل و الاختناق من ذلك الجو الذي يعيش فيه الطبيب النفسي ومن قذارة المستشفى بل ومن جو المدينة المشبع بالزيف والتفاهة وبهذا الأسلوب وتلك المقدمة أستطاع تشيخوف أن يجعل من حديث الطبيب النفسي مع أحد مرضاه حديثاً شيقاً ممعتاً أكثر من أي شيء أخر في المدينة أو في المستشفى أو في بيت الطبيب نفسه ، ثم تجد نفسك كقارىء تمقت أيضاً تلك الحياة وتسخط منها ولن تجد المتعة الا حين تقرأ الخوار الذي يدور بين الطبيب وبين أحد مرضاه النفسيين ، في هذه القصة يؤكد تشيخوف علي حقيقة نهاية المفكرين والمثقفين في هذا المجتمع تلك النهاية ستكون إما في عنبر للمجانين أو في قبر مظلم
وإننا لنراه ومن خلال تعريته لمعاناة أبطال قصصه وألمهم بل ومحاولة تبرير هؤلاء الأبطال لذلك لآلامهم وما تقذفه الحياة عليهم من ظلم علي أنه جزء من الحياة وشيء مقبول ، يخلق مزيجاً عجيباً من التعاطف والسخط وثورة في نفس القاريء للمشاركة في إحداث ذلك التغيير والدعوة الي العمل وإلى تغيير الواقع حتي وإن خلت قصصه من التوجيه المباشر أو الدعوة المباشرة لتغيير ذلك الواقع ،
يكفي أن تقرأ “المغفلة” أو “لمن أشكو كآبتي” أو “الشقيقات الثلاثة” حتي تصل الي تلك الحقيقة
لقبه بعض النقاد ب “السوداوي المرح” نظراً لما كان يتناول من واقع مجتمعي مرير في شيء من السخريه والتي تترك مرارة في الحلق علي الرغم من الابتسامة المرسومة علي الوجوه ، ولنستمع لما قاله حين آلح عليه أحدهم بالزواج
“أوافق علي الزواج شريطة أن تكون زوجتي كالقمر ، ولكن عليها الآ تسطع في سمائي كل ليلة “
رحل سيد القصة القصيرة عن عمر ناهز الأربعة والأربعين عاماً مخلفاً إرثاً أدبياً عظيماً ساهم في تغيير شكل القصة القصيرة في العالم أجمع والأهم من ذلك لقد ساهم كما قال هو نفسه
“في خلق مستقبل وفي خلق السعادة لنا ولأجيال ستأتي “
Leave a Reply