الوشاح

الوشاح

نضبت الأفكار من رأسي وأمتدت مساحات الورق بيضاء شاسعه أمام القلم، آمنت ساعتها أنني لست من أولئك الموهوبين و المبدعين ممنتنساب الكلمات والأفكار بين أناملهم في سهولة  ويُسر

تركت القلم فلقد كان الفجر علي وشك البزوغ ورحت في غفوه وأنا لا أزال جالس فوق مقعد مكتبى، فرأيت نفسي ما بين اليقظه والنوم

أمام “قلعه” عظيمه، جدرانها عاليه ذات لون رمادي وسقف من قباب كبيره تشق السحاب من طول أرتفاعها، كانت القلعة تشبه قلعة “محمدعلي ” بالقاهره ولكنها ليست هي ، فتلك القلعة أقدم بألاف السنين من قلعة “محمد علي” وهي تتوسط أرض منبسطة لا تحيط بها المبان ولاالجبال ، تقف هكذا وحيدة في بقعه من أرض شاسعة !

أقتربت من باب القلعة العملاق ودفعته بكل طاقتى حتى فُتح الباب، كان الضوء خافتاً بالداخل ، يبدو وكأنني عبرت مئات السنين نحوالماضى ، فهيئة من يسكن القلعة يدُل علي ذلك، فالملابس زاهيه فضفاضه والعمامات تعلو رؤوس الرجال والأحزمه الحريريه بألوانهاالمختلفة تحيط بخُصُور النساء

لا أحد يتحدث الي أحد ، الكل مشغول بنفسه مُنكب علي عمله، وهناك رفوف من كتب كثيرة معلقه علي جدران القلعة وبعض المارة يمسكبكتاب يقرأه فيه وهو يسير داخل القلعة وهذه ليست عادة أهل ذلك العصر القديم !

وتعجبت كيف أنتقلت بعض عادات عالمنا الي ذلك العالم البعيد ثم انتبهت علي صوت أحد حراس القلعة يصيح فيّ
• يا هذا من أنت ؟ وما حاجتك ؟

• لا أدري …كيف أشرح لك الأمر ، ولكن يمكنك أن تعتبرني شخص غير مهم ، جئت هنا أبحث عن فكره جديدة ، أبحث عن مُبدعيعلمني كيف تُصنع الأفكار وتَنبت بذور الحكايات !!

نظر الحارس إليّ وكأنه لم يفهم شيئاً مما قولته
ثم أشار إلي رجل في سن الأربعين يجلس بجانب جدار عملاق ويُمسك بكتاب كبير ، ينظر إلي الصفحة الأولي منه فى تركيز عجيب ثميُقلب صفحات عديدة من الكتاب بسرعة ثم يعود مرة أخري إلي النظر في الصفحة الأولي في تمعن عجيب

سألت الحارس
• من هذا الرجل ؟
• أنه “صانع الأحلام” !
• صانع الأحلام؟!
• أجل إنه خير مبدع في القلعة ، فهو ينسج كل ليله ، آلاَفٌ القصص و الحكايات لا يترك نائماً ولا مستيقظاً إلا صنع له “حلم” ، فأذهبإليه ؟!
• هل يسمح لي أن يعلمني كيف تُصنع الأفكار وكيف تُولّد الأحلام ؟!
• هو لا يرد سائلاً أبداً !

أقتربت من الرجل ولَم يبدو عليه أنه قد أنتبه لوجودي

• يا “صانع الأحلام” أخبروني بأنك أفضل موهوب في هذه القلعة ، علمني كيف تَصنع الخيال وكيف تَنسج الأحلام ؟!
• أنا لست موهوب في شيء !
• أرجوك لا تتواضع ، فكل من في القلعة يعرف قدرك وموهبتك أنت صاحب كل جديد !!
• الحقيقه أنني كما قلت لك لا أخلق أي شيء إنما اللهو بالأحداث و الأزمان والأماكن
• تلهو ؟!

• أجل ألهو ، أعيد ترتيب أحداث يومك وأمزج فيما بينها ، أمزجها أحياناً بأحداث من ماضىِ بعيد أو مشاهد مرت أمام عينك وأحياناًأخري أمزجها بأفكارك حول المستقبل وكذلك أفعل بالأماكن والأشخاص ، أنقل أناس من طفولتك الي حاضرك وأجعلك تخاطبأناس رأيتهم ربما مرة واحدة ولَم تتحدث إليهم ثم يصير ذلك المزيج “حلم” … أنا لا أبتكر شيئاً ، أتعتقد يا هذا أنني أملك كل ذلكالوقت لأخلق كل يوم “حلم جديد ” وحكايه جديده لكل إنسان ؟! أنا لست كما تظن وتعتقد !!

ثم سكت الرجل وهو يلتفت الي فتاة رائعة الجمال و أكمل

• أذهب إلي تلك الفتاه فهي أمهر مني وأعلم، هي من دون شك صانعة كل شيء؟
• من هى تلك الفاتنة ؟ إنها جميلة ولكن لما تُخْفِي نصف وجهها بذلك الوشاح ؟ ولماذ ينظر الجميع إليها هكذا ؟!
• أذهب وتحدث اليها ؟
• ما أسمها ؟ وماذا تفعل هنا في القلعه ؟
• إنها الدنيا !
• الدنيا؟!
• أجل ، تلك الفاتنة يعشقها الجميع و تعلق بهواها من تعلق ، تَأمر فَتُطَاع وتطلب فلا يرد سؤالها !
• ولكنها صغيرة !!
• الحسن كل الحسن في الصغر ! هي لا تعرف العمر !

أقتربت من الفتاه وقد تسارعت دقات قلبى ، كنت أخشى أن تلتقي عينى بعينها، فعيناها فيها من السحر ما قد يُذهب بالعقل ، تمايلتبجسمها الرشيق في خفة وهي تنظر اليّ من بعيد وكأنها تدعوني إلي حديث خاص ، أرتبكت وأنا أقترب منها وخفت من الوقوع في شباكها

• أيتها الدنيا ؟
• ماذا تريد؟!
• أنت صانعة الأحداث العِظام ، أخبريني كيف تُبدعين وتَنسجين من حياه البشر ملايين القصص والحكايات ؟

علا ضحكتها وهي تنظر إلي في دلال ولا يزال الوشاح يخفي نصف وجهها
• ظننت أنك ستحدثني عن الحب ؟
• انا لم أذكر الحب في حديثي!
• عيناك تُخبر بظمأ عاشق ؟
• أرجوكي أعطيني ما أريده فقط ، فليس لي طاقه الْيَوْمَ للحب ، فقط أخبريني كيف تنسجين الأحداث ثم تصلين بين أطراف الخيوطحتي تتشابك الحكايات وتتداخل فيما بينها ليكتمل بناء القصص ؟ وكيف تُؤثر قصة شخص ما أو فعل ما يفعله ذلك الشخص كيفيؤثر في حياه أخرين وفِي تفاصيل قصصهم ، أنت بلا شك أفضل مبدعة عرفتها البشرية !
• أنا “القصه” نفسها أنا لا أخلق شيء من تلقاء نفسي أنا “الحكايه” ولست صانعة لها !

تغيرت نبرة صوتها وهي تُكمل
• لا أعتقد أنني الشخص الذي يمكنه مساعدتك !
• أانت لا تخلقين شيئاً ؟ ، أنت تراوغين! ،
• بل أخبرتك بكل شيء !
• أنت لم تُخبريني بشيء !
علا صوت الحارس
• يا هذا، يجب عليك الخروج فالأبواب ستغلق الأن؟
• أرجوك تمهل ، فلم يساعدني أحد بعد ؟
• أخرج وإلا أخرجك حراس القلعه ؟!
• أمهلني قليلاً؟
أندفع حراس القلعه نحوى يدفعني بعضهم دفعاً خارج أبواب القلعه ووقفت الفتاة تنظر إلي وقد كشف الوشاح عن نصف وجة مشوه،فارتعش جسدي من هول ما رأيت و صرخت من غطرسة الحراس وهم يسوقونني خارج قلعتهم حين أصطدم وجهي ببابها الخشبي الغليظ !

إنتبهت فلقد سقطت رأسي فوق المكتب ولا تزال صفحات الورق البيضاء أمامي عيني لم يُخط فيها حرف !

Leave a Reply

Your email address will not be published.