إلهة الأقدار

إلهة الأقدار

وقعت عيني علي تلك الجميلة وهي تتوسط خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا المصريه في ثوبها الأبيض الأنيق، كانت تمسك بأربع ستائر بيضاء حريرية تدلت من سقف المسرح و تنظر إلى السماء ، بينما ألتف حولها مجموعة من الفتيات والشبان ، تبدو ساحرة ومميزة في تلك الوقفة و فى ذلك الثوب ، صففت من شعرها الأسود الغزير وجعلته مشدوداً الي الوراء فأظهر جمال وجهها وأصبح أكثر وضوحاً للجالسين في الصفوف الأمامية ، أما مثلي ممن يتخذ أغلب قراراته فى اللحظات الأخيرة فكنت أجلس في المقعد الأخير فى الطابق الأخير فى الأوبرا، فلقد أشتريت أخر تذكرة متبقيه للعرض وجلست أتحقق من وجوه أفراد الفُرقة الاسبانية من خلال شاشه “بروجيكتور ” تبث صور لوجوه أفراد الفريق ورقصاتهم فى وضوح علي جانبي الحائط الملاصق لخشبه المسرح !

 

وأنا كأغلب المصريين أحتفظ بصور تقليدية فى ذهني عن الفن الأوبرالي ولاسيما الغنائي منه ،

وهي صور أغلبها مضحك وعجيب يُخيل لي الغناء الأوبرالي وكأنه صُراخ حاد يخلق حاله من التوتر في النفس، والآلات الموسيقية تتشاجر في غير إنسجام أو ربما في إنسجام لا تستسيغه نفسي فأشعر بالملل والرغبه في أن أُوقف هذا الصراع والتوتر !

 

لا أدري من هو المسئول عن تكوين تلك الصور ؟ ومتي تكونت وأستقرت في ذهني كأمر مُسَلم به وواقع لا جدال فيه ، صور تكونت دون أن يكون هناك أساس قائم علي التجربه الحره والمستقلة ؟!

 

كنت وقبل بدء العرض بدقائق أبحث على الأنترنت عن “كارمينا بورانا” و “فورتونا” (وهو عنوان الحفلة ) وتبين لي بأن “فورتونا”

 

هى إلهه القدر عند الرومان والمتحكمة بالمصائر والأقدار وتصور الأسطورة تلك الإلهه بامرأه تمسك فى يدها عجلة القدر وتقلبها في استمرار فيتحول الأمل الي يأس والسلام الي خوف والبهجة الي حزن فهى ربه الحظ والثروه والانتقام بل وسيده القدر والمصائر !

 

أغلقت هاتفي مسرعاً فالقاعة قد أظلمت وسيبدأ العرض الراقص في ثوان ورأيت الفتاة الجميلة وهى تُمسك بتلك الستائر أو “المصائر” وتستعد لتدويرها بين من يقفون حولها وأندفعت الموسيقي من السماعات المثبته في أرجاء المسرح وأحتلت المكان بأكمله وفاضت حتي نفذت إلى قلوب الحاضرين في غير تريث!

 

أحسست وكأنني أعرف تلك المعزوفة أو كأننى قد سمعتها من قبل ، ومنذ اللحظه الأولي للعرض كان صوت الكورال يطغي علي كل شيء فيقر بمصير البشر أو يوجه ربما نداء ما بلغه لا أفهمها الي تلك الالهه الجميله فتنهمك في عملها وفي تقليب المصائر بين الناس

 

ثم سكت الكورال فجأة وساد الصمت لأقل من ثانيه ثم عاود الكورال ندائاته !

 

ولكن هذه المرة كانت الندائات متقطعه، تعلو تدريجياً وينتقل صوت الكورال فيها من طبقة إلى طبقة أخرى أعلى في القوه وكذلك فعلت الاَلات الموسيقيه والتي كانت تعزف علي خلفيه غناء الكورال !

 

وبدأت إلهه الاقدار في العمل وحركت الستائر الحريريه بين يديها فرأيت الحب والبكاء والألم والقوه في رقصات من مستهم إلهه الاقدار من الشباب والفتيات المحيطين بالفتاه الحسناء

 

علا صوت الكورال والالات الموسيقين وازدادت حركه الفتاة وأشتد التوتر وتزاحمت الأصوات وفجأة سكن كل شيء وساد صمت رهيب

حدث هذا في دقيقتين أثنتين أو ربما أقل !

لم أتابع العرض بعدها فلقد شردت هناك بعيداً أفكر في عجله الاقدار وتقلبها وإذا بي أسمع صوت عقلي يهمس محدثاً “فورتونا”

 

  • “فورتونا” أيتها الجميلة ، هلا حركتي عجلة قدري لتقف وتستقر بي عند السعادة ؟

ضحكت الفتاة ولم تجبني فأتبعت

  • أيتها الجميلة إن لم يكن هناك بد من تدوير عجله الاقدار فهل لك أن تبطئي عجله قدري حين أصل إلى السعادة !
  • وتريد أن أسرع بك حين تمر بالألم ؟!
  • أجل !

تمتمت الجميلة

  • هكذا أنتم يا معشر البشر تريدون أن تنسجوا الحياه وتخلقونها كما تشائون ، كلًُ علي هواه !
  • أهناك من يريد الألم ؟!
  • لكنك تريد أن تحظي بالكثير من المتع وبأقل القليل من العذاب !
  • وما الضير في ذلك ؟
  • انا لا أملك لك هذا ، فالعجلة ستدور وستمزج المصائر وتتقلب أنت بينها وستذوق من كل شيء !
  • وماذا عليّ ان أفعل ؟
  • أستمتع !
  • معذره ؟ أأستمتع بالألم والحزن والضعف؟
  • أستمتع بما عرفته وخَبَرته من تلك المصائر فإنك لن تعرف السعادة الا حين تُكوى بنار الألم و ستعرف القوة بالضعف والأمل أيضا ستعرفه حين تتذوق طعم المرارة والخيبة !
  • انا اعرف كيف أميز الأشياء ، لا تشغيل بالك فقط إنقليني نحو السعادة ؟!
  • لك ما تريد ولكن ماذا بعد السعادة ؟
  • الحكمة !
  • إنك تسأل عن شيء عظيم ! (ثم أتبعت) وماذا بعد ؟
  • الأمل !
  • وماذا بعد ؟

أطرقت لا أدري بما أجيبها ولم أَجِد مفر من الرد عليها فأجبت علي غير اقتناع

  • ربما القوة !
  • لك ما تشاء ومعه أيضاً ستذوق الألم والحيرة والتيه ثم المرارة والضعف ! تجهز الأن فسأحرك عجلة قدرك !
  • لا أرجوكي تمهلي انا لا أريد كل هذا ، ربما أريد بعضاً من هذا المزيج وليس كله ، أنا أخاف الألم ولكني أحب السعادة وأخاف من المرارة ، لا … لا .. تمهلى …أنا …..أنا لا أريد هذا ….ربما …. ربما …. الحب …. لا أنا لا أريد الحب … فالحب فيه ألم وسعادة وقوة وضعف وأمل وخيبة … أجل أنا لا أريد الحب …. كيف لي أن ألقى بنفسي في هذا العذاب وإن كان فيه السعادة …..أجل أنا لا أريد الحب …. أنا …… أنا …. … !

صرخت في

  • تكلم ؟ أنت ماذا ؟!
  • انا لا أريد شيء ، لتذهبي يا عجله الاقدار بعيدة عني فأنا لن أختار شيئاً لنفسي !!

 

أفقت علي صوت تصفيق الحضور وإنتهاء العرض ورأيت الفتاه الجميلة تنحنى لتحية الحاضرين

وأمسكت هاتفي من جديد لأقرأ كلمات القصيده المترجمة:

وا نصيباه

مثل القمر

أنت متقلب

أحيانا تمنح وتزيد

ودوما تمنع وتنقص

الحياة البشعة

أولا تقهر

ثم تغدق

مثلما تهوى

فالفقر

والسلطان

تذيبهم كالثلج

المصير موحش

وفارغ

يا عجلة القدر الدائرة

إنك لحاقدة حاسدة

الهناء إلى زوال

ويتلاشى إلى عدم

باهتا

وخفيا

 

الجمهورية أونلاين

الخميس 21 فبراير 2019

Leave a Reply

Your email address will not be published.